ايقاع متكرر
إيقاع
الطالبة
تتململ في جلستها بقلب القاعة. قدمها تطرق بانتظام على الدكة الخشبية. تقبض على هاتفها بقلق. تدرك أن دورها غير محوري؛ لو تجاهلت الرسالة، لو خرجت حتى من القاعة، لن يتغير شئ. تعرف أن أحلامها غير واقعية، لو بقيت في مكانها وقامت بدورها على أكمل وجه، لن يتغير شئ. ومع ذلك يغلب عليها التوتر. قضت الليل حائرة في اختيار الملابس المناسبة. اليوم امتحان. يفترض ان تشغلها أمور اخرى، وهي لا تهتم عادة. عدم الاكتراث بالمظهر الخارجي هو السبب الرئيسي لاستمرارها في ارتداء الحجاب. من دقائق مضت لم تكن تعلم أنها ستتحكم في إشارة البداية في هذه القاعة، وقبلها لم تكن تعلم أنها ستتجه إلى هذه القاعة. كل قراراتها كانت عفوية، لم تحلم بهذا الدور، لم ترغب به، لم تكن متأكدة اصلا من صحة إشاعة أن هناك من يقوم بدور القائد. كل ما تعرفه انها لو نجحت لن يتذكر أحد من بدأ، وإن فشلت ستقف وحيدة. تبتسم نصف ابتسامة و تهدأ، تعجبها تلك الفكرة. يرن الجرس للمرة الثانية، تحاول ان تتذكر عدد دقات الجرس قبل رفع الستار في المسرح رغم أنها لم تحضر أي مسرحية من قبل.
المشرفة
تقبض على هاتفها بضيق وتراجع الساعة. تمر على القاعات مجددا. تزعجها الدكك الخالية وعدم قدرتها على تفسير خلوها. تتنقل من قاعة لقاعة وتفكر بمن تتصل وماذا تقول؟ لا يمكن ان تقول ان القاعات خالية. لكن نسب الغياب هذه غير منطقية. هل عطلهم طارئ ما؟ هل تلوم المرور مثلا؟ هل فاتها خبر عن حدث جلل؟ هل تستجوب الحضور؟ العاملين؟ هل تتصل بزملاء في نفس موقعها؟ برؤسائها المباشرين؟
الساعي
يتحرك بصينية المشاريب بسرعة ومهارة. شئ يلفت انتباهه. لاحظ أولا قلة طلبات القهوة، بل قلة الطلبات كلها رغم الزحام. الزحام نفسه مستغرب لماذا تتكدس القاعات بهذا الشكل وفي هذه الساعة المبكرة؟ لو انها قاعة واحدة مكدسة فهذا يسهل تفسيره؛ شخص ذو عزوة أو شعبية. لكن كل القاعات! يلاحظ أحد أفراد الأمن واقفا في منتصف الردهة قابضا على هاتفه بتوتر. لا يحب هذا الرجل لكنه اعتاد عليه، على الأقل لا يتهرب من دفع ثمن مشاريبه بعكس زملائه. يسأله إن كان قد لاحظ شيئا غريبا اليوم. يرد رجل الأمن بقلق بالغ “كلهم عيال صغيرة”.
الشاب
يجلس في طرف القاعة قابضا على هاتفه، يحاول أن يخفي توتره. اليوم يوم حاسم. بعد فضيحة مارس تصور أن مستقبله انتهى. صحيح انه من خريجي البرنامج التدريبي لكنه يكاد يكون الوحيد الذي صعد بلا واسطة ولا ظهر يحميه. يعلم أن دخوله البرنامج وليد صدفة. لحظة احتاجوا فيها لتنويع الوجوه وتجميل الصورة. لعب دور الشاب المعارض، مثال المعارضة البناءة. عمل بدأب، فدوره المنصوص عليه دور صعب؛ إن تمادى في المعارضة تورط وإن تماهي في التذلل فقد قيمته. صدّر حالة من الاستحقاق بناء على ذكاء وجهد ومثابرة، وتوجت جهوده بضمه الى خلية إدارة الأزمة. يدرك تماما خطورة موقفه، فهو لم يدع للانضمام للخلية الا لأنه مَن حذّر اللواء من الأزمة الوشيكة. نصرٌ نادر لجهاز منوط به التعامل مع الجرائم الالكترونية العادية لا قضايا الأمن القومي. لكن الجبل تمخض عن فأر ومر يوم الأول من مارس بسلام. أطيح باللواء عقابا له على إحراج القيادة وإحداث حالة ذعر تداولتها وكالات الأنباء وتأثرت بها البورصات. لم يحمِه الا ان اللواء كان قد قدم تقريره وكأنه نتاج جهده الشخصي. لم يطَح به مع اللواء لا لأهميته وإنما لعدم اهميته. لن يطول الأمر. إما ان يثبت نفسه اليوم او تنتهي مسيرته والله أعلم أي نهاية، فهو في كل الأحوال مجرد مدني. و حتى المعارض الأليف قد يجد نفسه في السجن في غمضة عين.
الضابط
تقدم نحو المنصة، نظر الى الشاب اثناء مروره به، يحتاجه حتى لا يبدو وكأنه يتذاكى ويتخطى رؤساءه، لن يتكرر الخطأ، فالمستقبل واعد. لا يرضى عن أسلوب تعاملهم مع اللواء، حماه. ربما يجد طريقة لتصحيح الصورة اليوم. لكن عليه التحرك بحذر، أن يعرض الأمر وكأنها نظرية، ألا يقترح تحركات أو حلول. لا يثق في الشاب كثيرا وطموحه المبالغ فيه. يشك في كونه يدرك خطورة ما يحدث. يرغب فقط في الظهور وإثبات أهميته. لكنه، وبحكم مهنته، يعلم. وقف أمام الشاشة، أخذ وقته في شرب المياة وهو يرتب أفكاره، ثم بدأ في الحديث:
“الشهور اللي فاتت تحرياتنا أكدت جدية المؤامرة. إحنا غلطنا صحيح في تفسير تاريخ اليوم. زي ما هتشوفوا في التقرير اللي قدام حضراتكم ده إسم تنظيم سري قديم أعيد إحياؤه، وهو المسؤول عن الهجمات. للأسف ملفات التنظيم فقدت في الأحداث المؤسفة اللي مرت بيها البلاد في ألفين وحداشر، لكن تمكنا اخيرا من التوصل لواحد من مؤسسي التنظيم، وبعد جهد كبير ادلى باعترافات تفصيلية”.
انتظر قليلا بينما يتصفحون الملف. الاعترافات لا علاقة لها بالأزمة الحالية لكن رداءة خط السجين غالبا ستثنيهم عن الخوض في التفاصيل. يحاول ألا يتذكر شكل السجين بعد التعذيب. لا يمكن ان يصرح بالحقيقة لكن عليه أن يقود رؤساءه للاعتراف بحقيقة التهديد القادم بدون أن يتورط في ما لا يفهمه. تأتي اسئلتهم مشتتة ومربكة. عليه انهاء النقاش. عند اول فرصة يتدخل:
“الأهم دلوقتي حضراتكم مش الاعترافات اللي عن تاريخ التنظيم لكن هم بيخططوا لإيه حاليا. تحليلنا لمعنى يوم واحد مارس وانه هيشهد هجمات الكترونية واسعة تستهدف البنية التحتية كان غلط، لكن لا يمكن إهمال ان السنة دي سنة كبيسة. للأسف اللي توصلنا اليه مجرد ملامح و بناءً عليها عندنا نظرية عايزين نطرحها على حضراتكم النهاردة وانتم اقدر على تحليلها. تاريخ واحد مارس مكانش تاريخ الـevent، ده كان تاريخ الدخول في الـevent horizon - يعني أفق الحدث، والمصطلح ده دارج في أوساط الهاكرز، والمقصود ان ده التاريخ اللي عنده وصلت عدد الأجهزة المصابة للكتلة الحرجة المطلوبة للهجمات، لكن منعرفش تاريخ بداية الهجوم هيكون امتى؟ وهل هو اصلا هيحصل كله مرة واحدة؟ هاعرض على حضراتكم تدوينات قديمة منسوبة لمؤسس التنظيم اتمسحت قبل بداية الأزمة رغم إنه كان مسجون وقتها. التدوينات دي صحيح كانت علنية لكنها بتكشف يمكن النوايا وأسلوب التفكير ورا المخطط اللي احنا بنواجهه.”
المدونة
على الشاشة يظهر تسجيل لحاسوب قديم من ذوى الشاشات الضخمة. تقترب الكاميرا من الشاشة السوداء. كتابة كثيرة تعبر عن نظام التشغيل العتيق DOS وبعد ثوان تظهر جملة قصيرة بالانجليزية على الشاشة. تتكرر الجملة حتى تملأ حيز الشاشة كاملة. يرتبك الحضور؛ بعضهم يضحك وبعضهم يقطب جبينه. لا أحد يعلم إن كانت السيرة محرمة أم عطرة. موقف القيادة الحالية غير واضح ولا احد يعلم ما الانحياز المطلوب تبنيه.
تتغير الشاشة ويظهر عليها صور ملتقطة لتدوينة:
«في التسعينات كنا جمهور مستخدمي الكمبيوتر محدود العدد وبنتصرف كأننا قبيلة. مكانش الانترنت منتشر وقتها، كنا بنتداول الملفات والبرمجيات من خلال الفلوبي ديسك. مجرد انك تقابل في مواصلة واللاا مكان عام حد ماسك في ايده علبة ديسكات ده كان حجة كافية للتواصل والتعارف ولتبادل البرامج والألعاب. عملية تداول الملفات بالديسكات دي كانت الفرصة الوحيدة لانتقال فيروسات الكمبيوتر. وبالرغم من ضعف تصميم الفيروسات وقتها ومحدودية انتشارها كان خطرها كبير لأن برامج الأنتي فايروس بتنتشر بنفس الآلية البطيئة.
في الوقت ده كثير مننا ربوا عادات وقائية للحماية من الفيروسات. لأن آلية انتشار الفيروسات كانت واضحة وشخصية وكانت مسألة نقل العدوى دي محرجة جدا. آلية الانتقال الشخصية والبطيئة خلت فيه فيروسات محلية تضرب مناطق من العالم ومتخرجش منها الا عبر المطارات و المواني زي الفيروسات البيولوجية..
في الفترة دي انتشر فيروس في مصر لوحدها، لو اصاب جهازك كان بيطلع على الشاشة جملة “Mubarak is a cow” وتقعد تتكرر الجملة مع اي دوسة على أي زرار.
الغريب ان الفيروس ده تحديدا كان تصميمه ضعيف ومش بيخبي نفسه كويس. ومع ذلك الفيروس مش بس انتشر، ده صمد وفضل جزء من مشهد مستخدمي الكمبيوتر المبكرين سنوات وسنوات.
التفسير الوحيد ان مستخدمي الكمبيوتر المصريين الأوائل ساهموا بشكل عمدي في نشر الفيروس. اغلبنا تبرع انه يبقى حامل طوعي للفيروس ويعرف المستجدين عليه، نحتفظ بنسخ منه ونتداولها.
ده كان زمن مفيش فيه معارضة صريحة بتهتف ضد الرئيس في الشوارع ولا بتكتب تنقده بشكل مباشر في الجرائد، لكن انتشرت نكت عن غباوته وتناحته والفيروس ده كان مساهمة منا تبدو مثيرة وخطيرة اكثر من النكت. اثارة تستدعي الكلام عنه بصوت خافت لما تقابل حد مستجد في عالم الكمبيوتر وتعرض عليه نسخة من الفايروس زيه زي الألعاب والبرمجيات.
وده يخليه واحد من أنجح الفيروسات في التاريخ لأنه اصاب عقولنا وقلوبنا مش اجهزتنا»
متكرر
المدونة
على الشاشة الآن فيديو كليب لأغنية مصورة بالأبيض والأسود. اصوات جيتارات صاخبة تختلط بصوت الجمهور، لقطات سريعة لشوارع موسكو. يزداد صخب الأغنية، يظهر افراد الفرقة، شكلهم منفر، احدهم يشير باصبعه الأوسط للكاميرا. مع دخول الإيقاع يزداد الصخب، على الشاشة جمهور ضخم في استاد يقفز بجنون والمغني يطلق سيلاً من البذاءات لا يفهم أغلب الحضور معناه لكن كلمة fuck لا تحتاج الى ترجمة. يتململ الحضور ويعترض احد اصحاب الرتب على الدوشة دي ويطالب بالدخول في الموضوع. فجأة يتوقف الإيقاع. فاصل عزف منفرد على جيتار اليكتروني يصدم الحضور، ومع عودة الإيقاع يتضح تماما تطابق اللازمة اللحنية مع الأغنية التي أقلقت منامهم وكانت السبب في هذا الاجتماع.
تتغير الشاشة ثانية ويظهر عليها صور ملتقطة من نفس المدونة:
«في بريطانيا في التسعينات انسحبت الصناعات الثقيلة وكثيفة العمالة من البلاد، ومع انسحابها اختل ميزان العمل وزادت البطالة ولأول مرة في تاريخ الغرب كبر جيل مهدد بالحياة في ظروف اسوأ من جيل أهله. تغيرت المدن نفسها، ما بين مدن صغيرة تتآكل احياؤها الشعبية من الداخل، و مدن كبرى بينطرد سكانها الأفقر بعيدا عن مراكزها عشان يوسعوا لصناعات العصر الحديث: بنوك وبورصات وإعلام وسياحة. من وسط الأحياء النصف مهجورة دي طلعت موسيقى جديدة لا عندها طاقة الأمل والتمرد بتاعت روك اند رول الستينات ولا طاقة الغضب بتاعت بانك السبعينات. كانت موسيقى الكترونية بتستخدم نفس ادوات الميكنة والاتمتة اللي قلبت حال الاقتصاد عشان تفرز اصوات ايقاعات عنيفة وكأنها صادرة عن اشباح آلات المصانع اللي اتقفلت. موسيقى سريعة وصاخبة بتعبر عن ايقاع عصرها اللاهث، وبدل ما بتشجع جمهورها على التمرد بتشجعهم يرقصوا في انتظار الخراب.
الموسيقيين ماشغلوش نفسهم بالتمرد السياسي لكن طبيعة التكنولوجيا الرقمية حررتهم من الاحتياج لشركات الانتاج الضخمة والاستديوهات المعقدة وصالات الحفلات المجهزة. الموسيقي اللي بدأت في الشوارع احتل جمهورها ومبدعيها الشوارع عشان يقيموا حفلاتهم الراقصة الصاخبة وبقت ظاهرة اسمها الريف Rave؛ احتلال مؤقت لشارع او حقل او حديقة او هناجر موانئ او مخازن او بقايا مصانع مهجورة، فنانين ومريدين مختلطي الأعراق والاصول والخلفيات الثقافية والاجتماعية. تخطي تام للدولة وللسوق. حفلات مجانية ومشاركة في كل حاجة. ده كان قبل انتشار الانترنت، وآليات التنظيم العفوي كانت بتعتمد على توزيع منشورات وإعلانات وجرافيتي ورسائل تتسجل على انسر ماشين. الطابع ده خلاها كأنها تنظيم سري يعرفه اهله وبس. بالنسبة لجمهور الطبقة الوسطى المحافظ وللحكومات المحلية كانت الريفز بتظهر فجأة بلا اي مقدمات ويسمعوا موسيقى مش شبه اي حاجة شغالة في الراديو.
مع كبر الظاهرة لدرجة ان الحفلات بقت بتجتذب جمهور يقاس بعشرات الآلاف كان طبيعي ان السياسة تتدخل. سياسيين محافظين استخدموا البرلمان للتحذير من خطر هؤلاء الراقصين وموسيقاهم التجريدية بلغة جديرة بتهديد عسكري. هيستريا إعلامية (لاحظ ان ده قبل طلعة الهجوم على فرق الميتال في مصر بحجة محاربة عبادة الشيطان). بعد سنتين من التحريض والشد والجذب بين الراقصين والشرطة اصدر البرلمان في 1994 تعديل للقانون الجنائي يجرم اشكال من التجمع والتجمهر كان مسموح بيها من قبل.
صحي وعي اهل الموسيقى الجديدة السياسي كرد فعل على الهجمة السلطوية على الريف وحاولوا انهم ينظموا نفسهم وحاولوا كمان انهم يردوا على سلطة الدولة بأداتهم المهددة نفسها. وقتها سجلت فرقة The Prodigy تراك Their Law. و بقيت الأغنية الاحتجاجية الأهم والأكثر تأثيرا و يمكن دي الأغنية الاحتجاجية الشعبية الأخيرة في تاريخ الموسيقى الغربية. موسيقى الكترونية تجريدية برضه بس غاضبة و مليانة طاقة و بيتكرر كل شوية سامبل بيزعق Fuck them and their law وده كل اللي محتاجة تقوله.
بعد كام صدام مع الشرطة انهزمت الحركة الموسيقية الوليدة. تحورت بعدها الموسيقى الالكترونية بعد ما تخلصت من تأثير اليأس والملونين والمهاجرين واندمجت في السوق، اتحولت لنسخ انضف واشيك، موسيقى راقصة ماجنة سعيدة، هيمنت تماما على كل سوق الموسيقى وبقى الدي جي هو النجم لكن ده بعد ما انتزع تماما من اي سياق اجتماعي مش بس احتجاجي، واتزرع في نوادي غالية بتنقي جمهورها مش بس بارتفاع ثمن تذاكرها لكن كمان بشكل جسمهم وماركات ملابسهم.
الريف كان لحظة عابرة، لكن الأدوات اللي ربتها الدولة بناء على التعديل التشريعي ده فضلت واستخدمت في كل حاجة، من طرد متشردين، لتفريق اضرابات، لقمع مظاهرات.
في لندن لما حاولت الناس ترجع للاحتجاج في الألفينات اكتشفوا ان المدينة اتأممت للشرطة واتخصخصت للشركات وان ما تصوروه فضاء عام من حقهم يحتلوه تلاشي يوم ان طردت منه الموسيقى.
في انجلترا تعديل قانون لطرد الموسيقى والرقص من الشارع كان مقدمة للسيطرة على الاحتجاج وتفريغه من معناه ان لم يكن منعه. في مصر أصلا مالعبناش مزيكا ومارقصناش في الشوارع غير بعد الثورة، واحتاجت الدولة قانون التظاهر عشان تقضي على كل اشكال الاحتجاج، وبعدها تطرد الموسيقى والرقص من المدينة كلها.»
الضابط
تركز الأسئلة على روسيا التي تصوروها حليفا. يطمئنهم أن الحفل مقام في روسيا لكن الفرقة انجليزية. ينتقل الحديث لدور بريطانيا ومخابراتها في التآمر على مصر المستهدفة دائما. يفقد الأمل في إثنائهم عن هذا المسار، فقط يقر بتواضع أنه غير مؤهل لتقدير المخاطر الخارجية على هذا المستوى وأنه يترك الأمر لهم كأهل اختصاص.
يطرح عليهم نظريته. الفيروس الحالي ينتشر بسرعة لا تفسرها قنوات انتشاره، لا تفسرها كفاءته في الاختراق، الكود منشور على النت ويعاد إنتاجه بدمجه في برمجيات والعاب تبدو بريئة. كل محاولات وقف انتشاره باءت بالفشل، السبب بسيط وواضح، المصابين نفسهم حاملين طوعيين للفيروس، الاصابة أداة تجنيد. يلاحظ قلقا وغضبا على الوجوه. غالبا وصل الفيروس إلى بيوتهم وأجهزة ابنائهم، ينقذ الموقف بالتأكيد على ان نسبة صغيرة فقط من المصابين هي التي تنشر الفايروس عمدا، وأن تمييز من اصيب فعلا ومن يشارك أمر يستدعي جهد وتعاون باقي الاجهزة، مع بعض الرطانة عن الأمن القومي واستهداف الشباب وحروب الجيل الرابع يتمكن أخيرا من تهدئتهم.
الشاب
أطمأن قلبه لردود الأفعال، وفي سره سخر من غبائهم ومن تلعثم كفيله الجديد. هذه المرة اختار ضابط حديث السن من الجهاز الصحيح وورطه معه من البداية. منذ أن رأى تقرير 30 فبراير وأدرك ان تسرب التقرير نفسه هو غالبا مصدر الهام صانعي الفيروس صار الضابط الشاب تحت تحكمه هو. في أول لقاء منفرد لهما وضح للضابط بدون صخب أنه يدرك ان لا رابط بين الاعترافات وبين ما يحدث الآن. لا يعرفان كيف خرج الي الواقع تنظيم من خيال سجين احتاج ان يدلي بأي شئ، و من إصرار ضابط متعطش للترقية. لكن الوقت لا يسمح بتلك الاسئلة.
كاد يقهقه و هو يشاهد لواءات مذعورة من معلومة عن معسكرات تدريب الثوار في صحراء “تطوين”. المغفلون مقتنعون ان مؤامرة ما تحاك في المغرب، بل وحاول ضابط المخابرات المتحذلق ان يفسر الأمر بموقف مصر من ملف الصحراء الغربية. ماذا سيحدث إن عرفوا ان هذه مجرد هرتلات عقل انهكه التعذيب يربط بين ميمات انترنتية قديمة ومفردات أفلام الخيال العلمي. مع عرض التدوينات اكتمل تورطه. يشعر بالفخر الشديد. يكاد يجزم ان لو خرج الناشط إياه من السجن لن يكتشف انها تدوينات ملفقة. جمع الأفكار من تويتات متفرقة والكثير من البحث عن جذور الأغنية.
لكن في النهاية التلفيق كله يحكي قصة حقيقية، نسخ المهرجانات المحلية من الاغنية حقيقية، والفيروس يُشَغِّلها فجأة وبتنسيق محكم إن تصادف وجود أكثر من عشرة هواتف مصابة في نفس المكان. ليس في الأمر تنظيم، هي الانترنت نفسها تبدو وكأنها قادرة على إفراز ظواهر كهذه، بعد فترة ستخمد الهوجة وسينتقل الشباب صاحب فائض المهارة وفائض الوقت لصيحة جديدة، لكن البلبلة الناتجة ستكون فرصة له ليرتقي للمراتب العليا.
ينظر للسطر الأخير من التدوينة التي لفقها بنفسه، يتذكر فجأة ان رقم عشرة يمثل الحد الأدنى لاعتبار تجمع من الناس تظاهرة، كيف فاتته تلك التفصيلة؟ يشعر بتوتر مفاجئ. يلاحظ دخول موظفين الى القاعة بدون إذن، بعد أحاديث هامسة مقتضبة وقليل من الهرج والمرج ينفض الاجتماع.
الساعي
يمر بالقاعات مرة أخرى. بالفعل اغلب الحضور في سن الدراسة، يحاول التودد الي احدهم. يتوتر الفتى من اسئلته اللحوحة. يقرر التوجه لا لفرد الأمن الواقف على بوابة التفتيش وإنما إلي رئيسه. لا يعمل عادة في نفس الدور ولكنه ككل الموظفين يعرف الطريق الي مكتب مدير أمن المبنى. يفاجؤه قراره. لا يدرك دوافعه الشخصية بالضبط. هل يود التقرب من الضابط الكبير؟ أم انها رغبة في تربية هؤلاء الفتية؟ لا يهم المهم أن الأمر مريب. هذه محكمة لا مركز شباب وهذا موسم امتحانات.
نعم سيدخل على الرجل بدون تذلل مبالغ فيه بل بجدية من يحمل هم الوطن ويشعر بالمسئولية. سيحدثه بحضرتك ويا فندم و لن ينعته بالباشا. سيؤكد عليه بلهجة الناصح الأمين ضرورة ابلاغ القيادات والسادة المسئولين. “البلد مش سايبة ودي محكمة وده وقت امتحانات”.
المشرفة
تتصل بزميلة لها تشرف على لجنة تابعة لمديرية أخرى. نفس الملاحظة عن زيادة نسبة الغياب. تسخر زميلتها من اسئلتها الدقيقة عن النسب وهل تتشابه بين القاعات. لم تنس ابدا أيام تدريس مادة الاحصاء. تنطلق الزميلة في شكوى مطولة عن جيل الملاعين، نظريتها ان الطلبة بانتظار تسريب الامتحان على النت، او أنها محاولة لتنسيق وصول اعداد ضخمة بعد اغلاق اللجان مما يؤدي لارتباك يسهل الغش. اعتادت لهجة زميلتها العدائية، يزعجها عجزها عن تصور اي تفسير لسلوك الطلبة، تشعر بارهاق مفاجئ رغم أن اليوم في أوله. تنتقل زميلتها لحديث عن زمنهم وكيف كان جيلهم مختلف، تشاركها بعض مشاعرها لكن تنفر منها تماما عند ذكر حالات الاغماءات الجماعية في لجان البنات. تنهي المكالمة باقتضاب، كيف تشرح لها انها لا تشعر بحنين لزمن عنق الزجاجة والاغماءات الجماعية. هي لا تشعر بحنين لأي زمن أصلا. ربما تشعر بحنين لأحلام وردية عن معنى المهنة ورسالتها. تتذكر كيف كانت تحركها مشاعر أمومة مبكرة في بداية عملها، ثم عندما اصبحت ام وكبر اولادها فهمت اخيرا ان طلبة الثانوية لا يرحبون بتلك المشاعر.
تمر بالقاعات مرة اخرى، لا تفهم ما يحدث، لكنها تعلم ماذا سيحدث. غالبا الغياب منسق، العفاريت رتبوا شيئا ما على الانترنت. آجلا أم عاجلا سيبلغ احد مشرفي اللجان وسيصل الأمر للمسئولين، بعدها ستتحول المسألة الي مسألة أمنية لا تربوية. لن تبلغ أحد. تنظر الي الطلبة المنهمكين في الكتابة وتشعر بحنان جارف تجاههم، تجاه من حضروا. ستقوم بواجبها على أكمل وجه، واجبها تجاه الحاضرين والامتحان لا الوطن والجيل. تفكر قليلا ثم تصدر اوامرها، سيسمح للمتأخرين بالدخول. تطلب من الساعي ان يجهز شاي للطلبة والمراقبين على حسابها. لا تملك الكثير لتقدمه لطلبتها، تتمنى فقط ألا يحمل المستقبل ما يدفعهم للندم على التزامهم وعدم مشاركة زملائهم المتغيبين.
الطالبة
في قاعة دائرة الحريات بالمحكمة العليا يدخل القضاة بعد الجرس الثالث بثوان. يصيح الحاجب “محكمة!“ يقف الحضور. يجلس القضاة ويومئ رئيس الدائرة للحضور. يجلس الجميع إلا هي. تصعد فوق الدكة وترفع يدها عالية بالهاتف. ينظر لها القضاة باستغراب. فجأة تصدح كل التليفونات في القاعة بنفس الإيقاع المتكرر. تخفض يدها.. بصوت شكّله الأوتوتيون يتكرر الهتاف “كس ام القانون بتاعكم”. تغلق عينيها وتبدأ في الرقص.